دور شـهر رمضـان فـي البنـاء النفسـي للمسـلم
فرض الله سبحانه وتعالى الصيام على المسلم في الثاني من شهر شعبان من السنة الثانية من الهجرة فقال سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183) (البقرة) وربط الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بشهر رمضان فقال: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى" والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على" سفر فعدة من أيام أخر (البقرة: 185)، والأرجح أن نزوله كان في ليلة القدر التي ازدادت شرفاً ورفعة ومكانةً وقدراً بنزول القرآن الكريم فقال سبحانه وتعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر (1) (القدر) وقال سبحانه وتعالى عن ليلة القدر: إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين (3) فيها يفرق كل أمر حكيم (4) أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين (5) (الدخان) لذلك كان شهر رمضان شهر مدارسة القرآن عند الرسول صلى الله عليه و سلم وكان يتدارسه مع جبريل عليه السلام، فقد نقل البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه و سلم أجود بالخير من الريح المرسلة"، لذلك اقتدى المسلمون برسولهم، وكان شهر رمضان بالنسبة لهم شهر تلاوة القرآن ومدارسته، ويستحب ختم القرآن الكريم في صلاة التراويح ليسمع الناس القرآن الكريم كله.
ويُسن القيام في شهر رمضان للرجال والنساء، فقد روى الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة فيقول: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه"، ورووا إلا الترمذي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: صلّى النبي صلى الله عليه و سلم في المسجد فصلّى بصلاته ناس كثير ثم صلّى القابلة فكثروا، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: "قد رأيت صنيعكم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" وذلك في رمضان.
ويُسن الاجتهاد في العشر الأواخر بالقيام وتلاوة القرآن الكريم كما كان يفعل الرسول ص فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم: "كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشدّ المئزر" وفي رواية لمسلم: "كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره" وروى الترمذي في سننه عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يوقظ أهله في العشر الأواخر، ويرفع المئزر".
إذن يقوم رمضان على ثلاثة محاور: الصيام، وتلاوة القرآن، وقيام الليل، فكيف تبني هذه المحاور نفسية المسلم؟ ولنبدأ أولاً بالصيام.
أولاً: الصيام:
يبني الصيام حب الله سبحانه وتعالى في نفسية المسلم، فعندما يمتنع المسلم عن محبوبين إلى نفسه، لصيقين بذاته وهما: الطعام والنساء من أجل محبوب أعظم هو الله سبحانه وتعالى، لاشك في أن هذا ينمي حب الله سبحانه وتعالى في ذات المسلم، ويجعله يرتقي إلى مستوى عالٍ من الشفافية وسمو النفس وقوة الإرادة.
وكذلك يبني الصيام الرجاء في نفسية المسلم، فهو عندما يصوم يرجو من الله الأجر العظيم، لأن الصيام له سبحانه وتعالى وهو يجزي به، فقد روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزى به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلايرفث ولا يصخب، ولايجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم مرتين، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" رواه أحمد، ومسلم، والنسائي.
كما يرجو الصائم أن يشفع له الصيام والقرآن، فقد روى عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام أي ربّ منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفّعني به، ويقول القرآن منعته النوم بالليل، فشفعني به، فيشفّعان" رواه أحمد بسند صحيح.
كما يرجو المسلم أن يبعده الله عن النار بصيامه، فقد روى أبوسعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "لايصوم عبد يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم النار عن وجهه سبعين خريفاً" رواه الجماعة إلا أبا داود.
كما يرجو المسلم أن يدخل الجنة من باب الريان مع الصائمين، فقد روى سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "إن للجنة باباً يقال له الريان، يقال يوم القيامة: أين الصائمون؟ فإذا دخل آخرهم، أغلق ذلك الباب" رواه البخاري ومسلم.
كما يبني الصيام تقوى الله، وتتولد تلك التقوى من امتناع المسلم الصائم عن الإقدام على قضاء شهوتي الفرج والبطن مع قدرته على ذلك خوفاً من عقاب الله سبحانه وتعالى، ويأتي ذلك مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون 183 (البقرة: 183).
ثانيا: القرآن الكريم
لاشك في أن سماع المسلم لآيات القرآن الكريم في قيامه ستكون ذات أثر في بنائه النفسي، وأبرز هذه الآثار هي:
1 ـ الاعتبار والاتعاظ بما يسمعه من القصص القرآني حول دعوة الأنبياء للأمم السابقة، ونجاة المؤمنين وهلاك الكافرين، ويأتي كل ذلك مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين 57 (يونس).
2 ـ خشية القلب ووجله من صور العذاب التي تصفها آيات الله المتلوة، ورجاؤه وشوقه إلى الجنة التي يسمع صفاتها، وقد وصف الله سبحانه وتعالى حال أولئك الخاشعين الراجين فقال سبحانه وتعالى: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى" ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد 23 (الزمر).
3 ـ الهدى والنور اللذان يتولدان في قلب المسلم عندما يسمع آيات القرآن الكريم تتحدث عن صفات الله العظيمة، وقدرته الخارقة، ورحمته الواسعة، وسبل إرضائه سبحانه وتعالى، وعن الحلال والحرام، ويأتي ذلك موافقاً لقوله سبحانه وتعالى: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين 15 يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم 16 (المائدة).
ثالثا: القيام:
لاشك في أن أداء المسلم لقيام رمضان سيكون له أثر في بنائه النفسي وأبرزها:
1ـ تعظيم الله سبحانه وتعالى: فعندما يكابد المسلم شهوة النوم ويتغلب عليها ويقف بين يدي الله طالباً رحمته آملاً بمغفرته لاشك في أن هذا سيولد عنده تعظيم الله سبحانه وتعالى.
2 ـ الخضوع لله سبحانه وتعالى: عندما يقف المسلم بين يدي ربه في العشر الأواخر من رمضان في الثلث الأخير من الليل، ويجتهد في قيامه وركوعه وسجوده وتلاوته القرآن الكريم، لاشك في أن هذا سيولد عنده الخضوع لله سبحانه وتعالى، لأنه يمتثل قول ربه سبحانه وتعالى: يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (4) إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا (5) إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا (6) (المزمل).
ليس من شك بأن لشهر رمضان دوراً عظيماً في البناء النفسي للمسلم، وقد طوفنا في السطور السابقة ببعض المعاني التي يمكن أن يبنيها هذا الشهر الذي يمكن أن نطلق عليه بحق إنه شهر الصيام وشهر القرآن وشــــهر القيام.
منقول للكاتب : غازي التوبة