العجوز والبحر..</SPAN>
</SPAN>
<BLOCKQUOTE dir=rtl style="MARGIN-LEFT: 0px">
تمايل القارب في نعومة فوق سطح البحر, تارة يمينا وتارة شمالا, بوتيرة منتظمة, صامتة, وهادئة. لم تكن ثمة ريح عاصفة, ولا موج أهوج, فقط نسمة خفيفة, باردة, ومنعشة. ماء أسود سواد الليل, يخترقه خط فضي صافي, خط خطه سيد السماء, وملك الضياء, في موكبه الطائر في الفضاء, حيث السديم, وحيث الثريات المعلقة في الخفاء تزيده وهجا وسطوعا.. </SPAN>
انعكس خيال وجهه الغض على السطح الأسود, خيال أسود, على موج أسود, فما تبدى غير السواد..</SPAN>
ممسكا حبل شبكته العتيقة, بيدين حفرت بينهما خرائط الحياة وبأسها, شدادها ويسرها, فرحها وبؤسها..</SPAN>
عينان حفرت عميقا بين ظلال العمر الطويل, فما بقي منهما غير ذاك البريق, البريق الذي قهر الأهوال وصارع الأمواج العاتية وسط العواصف المزلزلة.</SPAN>
يسحب الحبل بخفة, ثم يعاود رمي الشبكة من جديد, وفي كل مرة, تطلع خاوية, فارغة إلا من بقايا أعشاب البحر الميتة. ليلة طويلة, بحر واسع, وخير حبيس. بيد أن صبر هذا العجوز لا حد يحده ولا أفقا يسعه. نفس عميق وإيمان أصيل وصلابة لا تقهر, لا بالنار ولا بالدم.</SPAN>
شارف الليل على الرحيل, ولاحت جيوش الغزاة في الأفق, تخترق الستار الأسود, وتفتح القلاع المسلوبة. اهتز عرش </SPAN>القمر, وبان السيد الجديد, أو بالأحرى سيدة السماء, تنبثق في ركن الأفق, تمزقه, وتنثر دمه الأحمر على جسده الأزرق, فما ندت منه آهة ولا أنة, صبر على حاله, كصبر ذاك العجوز على حظه.</SPAN>
اهتز الحبل بغتة, تحرك بعنف نحو الأسفل, كاد يفلت..لولا يد الصياد الجبارة, أمسكته في إحكام, وشدته بقوة نحو الأعلى, فلاحت رأس السمكة العملاقة, "إنه الفرج.." هكذا رنت العبارة في أعماقه الفرحة. طوح يده ليمسك السمكة قبل أن تفلت, حين برز ذاك الجسد الطافي فجأة بين الأمواج, جسد رجل يصارع الموت الداني منه, تحرك عقل البحار العجوز في سرعة, بين السمكة و بين الرجل. لم يتردد ولم ينتظر. أفلت السمكة, وأمسك بيد الغريق, أحكم إمساكه, وفي لحظة كان على سطح القارب. نزع العجوز رداءه الوحيد, ودثر الغريق به. ثم استعد للعودة إلى اليابسة. </SPAN></SPAN>
هناك, عند اليابسة, تجمهر الخلق, هاج وماج, رفعوا الغريق بالسواعد, نحو المستشفى. ظل صاحبنا العجوز جالس على الرمل في صمت, مشعلا سيجارته المبتلة, ينظر إلى البحر الأزرق في هدوء المنتصر, بعد أن نال منه, وأضاع منه صيده الثمين. </SPAN></SPAN>
</BLOCKQUOTE>